مع فرقة موسيقية ضمت حوالي عشرين عنصرا من أمهر العازفين التونسيين والكورال يقودهم باقتدار وحرفية المايسترو « راسم دمق »أطل الفنان السوري « نور مهنا »على جمهور الدورة السادسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي ليحيي سهرة كان « الطرب » عنوانها الكبير، أمام جمهور غفير ملأ المدارج والكراسي الأمامية، جمهور لم يتخلّف عن كل حفلاته السابقة حتى أنه وصفه بالوفيّ… والوفاء هنا لم يكن لهذا الصوت القوي الذي يتحرّك ضمن مساحات فنيّة متنوّعة فقط وإنما أيضا للطرب الأصيل ولزمن الكبار الذين ما انفكّ نور مهنّا يغنّي لهم حرصا منه على بقاء هذا اللون الفني في ذاكرة الأجيال القادمة واعترافا لهم بما قدّموه للمشهد الفني العربي من ثراء وتنوع.
أكثر من ساعتين، زمن كان أكثر من كاف ليحمل هذا الجمهور إلى كوكب آخر قوامه الحب والجمال والسحر، كل هذا وأكثر يتحرّك ضمن نوتة كُتبت بمقامات شرقية متناغمة ومتجانسة مع صوت عربي أصيل حلّق في سماء ليلة قرطاجنية لم تكن النجوم زينتها الوحيدة…
لنور مهنّا تاريخ مع المسرح الروماني وجمهوره فقد خبر كليهما منذ سنوات وصار يعرف على أيّ وتر يعزف ليشدّه إليه أكثر فقد نوّع في خياراته الغنائية التي انتقاها لتأثيث سهرته وحفر في الذاكرة الفنية العربية الجماعية لينتقل من ألحان سيد درويش « طلعت يا محلا نورها » إلى صلاح الشرنوبي « فينك من زمان يا غالي عليّا » ثم كمال الطويل « الناس المغرمين » (محمد عبد المطلب)و »إن كنت ناسي أفكرك » (هدى سلطان) وخالد الأمير « وحشتني » (سعاد محمد) ليعرّج على لحن تونسي عريق لخميس ترنان في » كواتني كواتك » (صليحة)… وبين هذا وذاك راوح بين المواويل والقدود الحلبية يشدو بالفصحى والعامية السورية فكانت « عالروزانا » التي ترحّب بالقادمين من حلب وتسأل أحباب تركوهم هناك، وهو وجع لم يخفه نور مهنّا الغائب عن بلده منذ عقد أو يزيد ولا يفوّت فرصة لتحيّته والدعاء له بالاستقرار والأمن، وكذلك غنّى « عليه العوض » و »رقّ الزمان وضحك ليّا » و »ابعثلي جواب » و »صل من تحب » و »لعلّ وعسى » و »يا سيد الناس وسيد قلبي » و » يا مال الشام » و « أطل عام وانقضى » و »خمرة الحب اسقنيها »… ليختم بوصلة من أروع ما غنّت كوكب الشرق: « أنساك » و « هو صحيح » و « الحب كله »… أغاني تكاد تنسى وسط هذا الزخم السمعي الجديد لموسيقات مختلفة الألوان والأنماط لجيل المنصات والسوشل ميديا، عمل الفنان السوري على إعادة الاعتبار لقيمتها وتجذّرها في الهوية الموسيقية العربية وزيّنها بعُربه الجميلة وغنّاها بانتشاء كبير وتقبّلها وتفاعل معها الجمهور بانتشاء أكبر.
أكثر من ساعتين لم يتوقّف فيهما الفنان السوري « نور مهنا » عن الغناء ولم يتوقّف جمهوره عن التركيز والمتعة،
طرب وانتشاء ومرافقة غنائية من جمهور كان بمثابة الكورال الثاني … حفاوة لقاء بالفنان السوري الذي جمع بين جمال الصوت وقوته والذوق الفني المميز وجمال حضور جمهور قرطاج الأنيق في سهرة استثنائية لن ينساها الفنان وسيذكرها جمهور مساء الخميس 21 جويلية 2022…
وهذا ليس غريبا على فنان اعتبر نفسه امتدادا لجيل الكبار من المطربين الراحلين » حرمان الجمهور الشاب من سماع هذه الأغاني ألا يعتبر جريمة في حقّة؟ » هكذا صرّح نور مهنّا في اللقاء الذي جمعه بالصحفيين التونسيين مباشرة عقب الحفل وأضاف بأنه كما تربى على سماع أجيال سبقته من عمالقة الفن فهذا الجمهور التونسي الذي يمتلك حسّا فنيّا عاليا سيتربّى على صوته وهو مستعدّ ليقدّم له كلّ ما يتوقعه، حتى أنّه أحيانا على المسرح لا يلتزم ببرنامج الحفل ويلبّي طلبات الجمهور بسعادة، كما ذكّر في سياق حديثه بالتجربة الفنية الرائدة التي جمعته بالفنان القدير والصديق لطفي بوشناق… وطبعا لم يخف حنينه لسوريا التي غادرها مضطرّا والتي أعدّ لها مشروعا فنيّا لم يجهز بعد معتبرا هذا البطء سببه الحالة النفسيّة التي لا تسعفه لترجمة الكم الهائل من المشاعر والآلام.
نور مهنا تحدّث أيضا إلى الصحفيين عن المدوّنة الفنية التي يحفظها بين تراث حلبي وكلاسيكيات عربية تجاوزت الثلاثمائة أغنية كأنه يشير إلى أنّه حارس قلعة الفن الجميل لأن الأغاني الجديدة التي « يزدحم بها المشهد اليوم تُسمع وتُنسى سريعا أما أغاني التراث فهي صامدة ويظل الجمهور دائما متعطّشا لسماعها »، وعن عشق سكان حلب لتراثهم الموسيقي أكّد نور مهنّا أنّها ظاهرة يصعب تفسيرها حيث الكلّ في حلب يغني القدود والموال والقصيد بحرفية وإتقان حتى وإن كان جاهلا للموسيقى وقواعدها.