هل تحتاج الموسيقى لنصّ يسندها ويبيّن معانيها؟ هل تحتاج وأنت تتابع عصارة الفكرة تتحوّل إلى نغم ينساب بغموض كانسياب السكّر من بين أناملك إلى ترجمان يشرحها؟ أسئلة كثيرة ستقتحم مخيّلتك حتما وأنت تتابع عرضا موسيقيّا لا رقص فيه ولا كلمات؟ لن تقف على الأجوبة الكاملة لأنها ليست معادلة رياضية خاضعة للمنطق فصوت الموسيقى يتجاوز ضجيج الأفكار ليبلغ الروح ومعنى الوجود…
بهذا المعنى وهذه الحيرة ـ بمفهومها الإيجابي ـ اقترحت الدورة السابعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي سهرة موسيقية جمعت مساء الاثنين 14 أوت بين « ثلاثي تقسيم » التركي و »ثلاثي جبران » الفلسطيني. مجموعتان اتخذتا من الموسيقى صوتا ومنهجا وأسلوب حياة…
البداية كانت مع ثلاثي « تقسيم » القادم من تركيا وتحديدا إسطنبول المنقسمة بين قارتين والجامعة بين ثقافتين، إسماعيل وأيتاش وحسنو جمعتهم صداقة منذ سنوات الطفولة تربّوا على سماع الموسيقى الطربية وأصولها العثمانية إلى جانب موسيقى الغجر، مجموعة ثلاثية الأضلاع تختصر توليفتها في ثلاث آلات هي الكلارينت والقانون والساز (وهو من عائلة الوتريات أصغر من العود وأكبر من البزق) ثلاث آلات فقط صنعت عرضا استقبله جمهور قرطاج بانتباه شديد وشغف مستعدّا للرحيل إلى عوالم فنية تأخذه من الشرق العربي إلى شرق آسيا وتحطّ به مرة في الهند وأخرى بين قبائل الغجر وتستريح بين أمواج البحر الأبيض المتوسط لتعبر إلينا وتعزف للراحلة صليحة « آه ودعوني » بحرفية عالية تلامس شغاف القلب ثمّ تستأنف رحلتها في قطعة من « ألف ليلة وليلة » لأم كلثوم من ألحان بليغ حمدي… استمرت الرحلة حوالي ساعة من الزمن وكأن الجمهور على بساط سحري يركب الريح باحثا عن تلك النقطة التي يلتقي فيها الشرق بالغرب والتي اشتغل عليها ثلاثي تقسيم من خلال تشبعهم بالموسيقى الطربية والبحث عن أساليب التحديث والتجديد لتنسجم مع التركيبة العجيبة لمدينة إسطنبول… بالإضافة إلى المقطوعات الموسيقية التي عزفها الثلاثي غنّى إسماعيل أغنيتان بصوت رخيم تشوبه بحّة، غناء يحاكي الغناء الصوفي في شرق آسيا ورغم صعوبة المنطوق/الكلمات إلا أن الإحساس بها كان عال ورهيف وقريب من الروح…. حالة صعبة التفسير من النشوة والامتلاء بالمعنى لا يمكن أن يدركها من تخلّف عن مواكبة هذا الترحال الممتع.
أوتار تدوزن ساعات المساء ودرويش يحرس المعبد
« ثلاثي جبران » حالة فنية نادرة الوجود عايشها جمهور الدورة السابعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي مساء الإثنين 14 أوت، جمهور بمقاييس خاصّة وبذائقة فنيّة رفيعة الحس يدرك أنه اتجه إلى المسرح الروماني ليرحل أو بالأحرى ليحلّق في عوالم عصيّة على المنال مع ثلاثي يجوب العالم حاملا أوتار العود وأنغام الشرق وروح درويش في أشعاره ونبض حرف يعكس حياة الترحال وقدر الشتات، ثلاثة كواحد والواحد لا يتجزأ ولا يقبل القسمة، ولدوا في بيت ربّه صانع أعواد مما يعني أنهم شهدوا على أدقّ المراحل في صناعة سيد الآلات ودوزنة أوتاره، صنعة ورثها جبران الأوسط (وسام) وطورها بالدراسة في أحد المعاهد الإيطالية.
أمام جمهور أنيق، أناقة المقام وأناقة الكلمة أطلّ الثلاثي، كلّ يعانق عوده ومعهم عازفي الإيقاع حبيب الإيراني ويوسف الفلسطيني سبقهم إلى سماء قرطاج صوت محمود درويش الحاضر بالغياب « أنا المعافى الآن/ سيد فرصتي في الحب/ لا أنسى ولا أتذكر الماضي/ لأني الآن أولد…هكذا من كل شيء/ أصنع الماضي إذا احتاج الهواء إلى سلالته/ وأفسده الغبار »…(من قصيد بالزنبق امتلأ الهواء)
بعد هذا الاستهلال أعلن سمير أكبر إخوة جبران أنه « يخاف على أنامله من رعشة القلب » قالها بعد الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها جمهور قرطاج نجوم الجزء الثاني من سهرة الاثنين 14 أوت وأضاف أنه جاء محمّلا بتحية من الشعب الفلسطيني للشعب التونسي.
« تعرف المهرجانات بصخبها، لكن صخب هذه الأمسية سيتمتّع بالحب واللحن والأمل… وشعر درويش » هكذا قال وكذلك صار بالفعل، بعد هذه الجملة انسابت الألحان شرقية كنبع جار يعرف مساره فتصب في الآذان وفي القلوب عميقة الصدى يتعقّبها الحضور من خلال تلك الأنامل وتستدلّ عليها في حركات الأحاسيس « حسّا يعدّل حسّا وحدسا ينزّل معنى »
لأول مرة على مسرح قرطاج الأثري نسجّل أكثر من نجم في حفل واحد فعلاوة على تلاثي جبران كان الجمهور نجما بارزا في سهرة الاثنين بحضوره الأنيق ورهافة حسّه في الاستماع بكل أحاسيسه لما يٌقدم على الركح، درويش الذي سكن بيتا في الغياب كان كذلك واحدا من نجوم الحفل الموسيقي ولأنه لم يشف من حبّ تونس لم يشأ أن يترك أصدقاءه الذين رافقوه في أكثر من ثلاثين عرضا على امتداد خمسة عشر عاما، فخبّأ صوته في حقائبهم وفي ثنايا الأوتار ليقرأ أشعاره ويذكّرنا بوصيته « لم أسمع عاشقين يقولان شكرا/ ولكن شكرا لك لأنك أنت من أنت/ حافظي على نفسك يا تونس/ سنلتقي غدا على أرض أختك فلسطين/ هل نسينا شيئا ورائنا؟ نسينا القلب وتركنا فيك خير ما فينا/ تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا… » وتكرّر حضوره تقريبا في كلّ فقرة من فقرات العرض من خلال « الجدارية » و »انتظرها » و »غريبان في شارع »… وكان صوته دائما مسنودا على العود يدوزن أوتاره… فإن كان درويش قد ترك في تونس أجمل ما فيه فإن ثلاثي جبران ترك على المسرح الروماني أروع ما فيه.
رغم أن « ثلاثي جبران » عرفوا كأول تركيبة في تاريخ الموسيقى الشرقية تتحد في النغم والشغف والأداء بلغة واحدة هي العود ولا شيء غيره إلا أنهم كسروا القاعدة عندما غنى سمير مع الجمهور » وحياتي عندك » للراحلة ذكرى محمد تحيّة لها ولصوتها الرائع وكذلك في ختام الحفل « أهواك واتمنّى لو أنساك » للعندليب الأسمر…
ساعتان ونصف من العزف والترحال بين الشرق والشرق الآخر بين أسلوبين من العزف يختلفان ويلتقيان عند نقطة ما، نقطة مدارها البحث عن التحديث وجوهرها موسيقى الشرق وأصولها الممتدة منذ قرون، « ثلاثي تقسيم » و »ثلاثي جبران » قدما سهرة لا يمكن وصفها بالكلمات لأنه عندما يتعلّق بما لا يفسّر تأتي الموسيقى في المرتبة الثانية بعد الصمت.