وفيّة لهويتها الفلسطينية أطلت الفنانة ريم تلحمي مساء الجمعة 02 أوت 2019 على جمهور الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي بزيّ أنيق يجمع بين التقليدي والعصري عليه تطريز يظهر خصوصية التراث الفلسطيني وجمال تفاصيله… جاءت إلى قرطاج لتصعد على ركح شهد بداياتها منذ أكثر من ربع قرن مع مجموعة « أصوات قرطاج » بإدارة المايسترو محمد القرفي، ولتلتقي بجمهور تابع مسيرتها وهي تراوح بين المسرح والغناء وتقدّم جديدها في مختلف التظاهرات التونسية الكبرى.
« سأحلم لا لأصلح مركبات الريح/ أو عطبا أصاب الروح »… بكلمات الراحل محمود درويش بدأت تلحمي عرضها الفني تصاحبها فرقة من تسعة عازفين وأربعة من الكورال أغلبهم تونسيون… »لكني سأحلم/ ربما اتسعت بلاد لي كما أنا/ واحدا من أهل هذا البحر/ كفّ عن السؤال الصعب: من أنا؟ هاهنا؟ أأنا ابن أمي؟ »… ليس بإمكان أيّ كان أن يغني لدرويش الكبير فتلك الفلسفة وذاك المجاز يتطلب صوتا بمساحات خاصة، صوت له طابع يسكنه حسّ عال ونبرة حرّة تؤمن بما تقول… ريم تلحمي تدرك ذلك تماما فتركت الوقفة الكلاسيكية والحضور الجامد وتحركت على الركح بكل تعابيرها لتعكس المعنى في النصّ وتلامس النبض في الكلمة ساعدها في ذلك تكوينها المسرحي وخبرتها الطويلة على الركح، « أنا أيضا أطير وكل حيّ طائر… » ولم تكفّ عن الحركة.
بعد كلمات درويش المأخوذة من جداريته الشهيرة قدمت أغنيتها « ما تعبتش يا قلبي » لتقترح بعدها مجموعة من الأغاني التراثية « ياما موالي الهوا » و »مرمر زماني » و »ها الأسمر اللون » تخللتها صولو على الكمنجة ثم الناي والقانون والتشيلو… لتتحدى نفسها ولهجتها وتهدي جمهور قرطاج أغنية تونسية قديمة « بحذا حبيبتي تحلا السهرية » تبعتها « لاموني اللي غارو مني » للفنان الراحل الهادي الجويني…
أشعار درويش كانت البداية وكانت كذلك مسك الختام أليس هو من قال: « فلسطين أم البدايات، وأم النهايات »؟ فكانت « فكّر بغيرك » و »على هذه الأرض ما يستحق الحياة » تحيتها لدرويش ووفاءها لفلسطين التي أكدت قبل يوم خلال الندوة الصحفية أنها تحملها حيثما اتجهت وأنها مهما قدمت للقضية الفلسطينية تظل تشعر أنها مقصّرة… وعلى وقع تلك الكلمات الشفافة عميقة الصدى حيّت ريم تلحمي جمهور قرطاج الذي استمع إليها بتركيز واحترام لتفسح المجال في الجزء الثاني من السهرة للفرقة الفلسطينية الشابة « الإنس والجام » المبرمجة في السهرة نفسها الجمعة 02 أوت 2019 ضمن فعاليات الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي.
هذه الفرقة حديثة التأسيس والتي شهدت انطلاقتها بأغنية « التراللّي » سنة 2017 وحصدت الاف المشاهدات والمعجبين على مواقع السوشل ميديا جاءت إلى قرطاج بعناصرها الموسيقية السبعة بقبعاتهم السود ونمطهم الموسيقي الشبابي الذي يسم مشروعهم: « الجام » أو الاكتظاظ، ازدحام الأفكار والخطوط والتقاءها في انسجام عند نقطة تثير أكثر من سؤال… سؤال عن السرّ الذي يكمن في لقاء الشرقي بالجاز ولقاء البلوز بالشرقي بما فيه القديم ذي الطابع الكلاسيكي ولقاء كل هذا في قطعة واحدة… الموسيقى تتقاطع وتلتقي وتغازل الآلات بعضها لتنتج فسيفساء منسجمة وإن اختلفت قواعدها ومصادرها أو بيئتها… ليس للموسيقى جنسية واحدة ولا لغة واحدة هي شيء لا يقبل القيود ولا الجمود.
« بلاش تبوسني في عينيا » و »يا دنيا يا غرامي » و »يا زهرة في خيالي » كوكتال من أغاني فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب بدأت بها المجموعة فقرتها معتمدة توزيعا جديدا بروح العصر وإيقاعه الذي لم يشوّه بنيتها، بعدها غنّوا أغنيتهم المعروفة « فانطازيا » وهي إلى حدّ ما تشبههم خاصة في ذلك المقطع « الدنيا ماشية بلون وانت ماشي بلون » ثم غنوا « يكفي تحكيلي عن بكرا » و »ارجعيلي أو ما ترجعيلي » و »الحب الترارللي » تخللتها « أنا عندي رانديفو » للفنان التونسي رضا ديكي وكوكتال جديد ضم مجموعة من الأغاني الجديدة والقديمة « أول مرة تحب يا قلبي » و »يا عيني على الأيام » و »ثلاث دقات »… كما غنوا للفنان الصادق ثريا « كي يضيق بيك الدهر »…
وبما أنها فرقة حديثة التأسيس فإن رصيدها لا يضم الكثير من الأغاني الخاصة وهي مسألة مرتبطة بظروف الإنتاج في فلسطين كما أوضح أحد عناصر الفرقة خلال الندوة الصحفية التي خصّصت لهم ومع ذلك فقد ركزت المجموعة على إبراز امكانياتها في التوزيع ومهاراتها المتفاوتة في العزف على مختلف الآلات الموسيقية الشرقية والغربية لتبرهن عن معنى الاكتظاظ وازدحام الأفكار الفنية التي تسكنها…
« الإنس والجام » فرقة فلسطينية شابة استطاعت مساء الجمعة 02 أوت 2019 أن تكتسب أحقية حضورها على ركح قرطاج الأثري بتفرّدها ولونها الخاص الذي كسر النمط الكلاسيكي والقوالب الفنية الجاهزة لتحلّق خارج السرب، وهي وإن كانت محدودة في عدد أغانيها الخاصة فالمستقبل امامها لتؤثث مدونتها الفنية بهذا الاختلاف والتمكن في التعاطي مع كلّ الآلات، هي مجموعة منفتحة على كل الألوان الموسيقية تنتقي نصوصا تشبهها وتعبّر عنها وذلك التفرّد هو الذي خلق لها قاعدة جماهيرية شابّة حفظت أغانيها وتفاعلت معها.