سهرة أخرى من سهرات الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي توشحت فيها مدارج المسرح الروماني باللون الأبيض ليغدو كلوحة تعانق ملائكة السماء، ولأن الأبيض لون العظماء والنور والسلام تشكلت مشهدية ساحرة في سهرة قرطاجنية كان عنوانها » الجمهور هو الفنان » أو « أنتم الكورال » .
قبل ساعات من انطلاق عرض المؤلف والموزع الموسيقي أمين بودشار كانت المدارج مزدحمة بجمهور في قمة الانضباط حيث استجاب لمقترح المايسترو بودشار وارتدى أزياء بيضاء متناسقة.
سهرة قدمت أمام شبابيك مغلقة، صافح فيها أمين بودشار وفرقته للمرة الأولى الجمهور الذي راوح بين فئات عمرية مختلفة، جمهور جاء خصيصا للعب دور الفنان الذي منحه المايسترو المغربي .
على أنغام النشيد الوطني التونسي، انطلقت السهرة بعد أن تموقعت عناصر الفرقة على الركح والمتكونة من 35 عازفا من بينهم 15 عازفا تونسيا اضافة الى عازفين من المغرب ومصر وفرنسا يتقدمهم المايسترو أمين بودشار الذي استهل سهرته بمعزوفة « موزاييكا » من تأليفه في حين تكفل العازف التونسي عطيل معاوية بالصولو كمنجة موزون، وتعد هذه المعزوفة من أجمل مؤلفات بودشار الموسيقية حيث تتداخل ايقاعات الجاز مع الموسيقى المغربية .
في هذا الحفل قدّم أمين بودشار خمس معزوفات حملت امضاءه وهم « موزاييكا » و »جالسا » و »التعريضة » التي جمعت موسيقى العالم ومدتها ست دقائق و »جبلي جام » التي تمثل اللون الجبلي الموجود شمال المغرب وليلى » وجميعها معزوفات مزج فيها بودشار بين لهجات موسيقية مختلفة كالخليجي والمغربي والقناوة والمزود .
ولأن الفنان المغربي بودشار أرسى معادلة موسيقية جديدة، وأدخل تغييرات على اسلوب العرض، لا يقتصر فيها دور الجمهور على الحضور والتفاعل بل بات جزءا أساسيا من العرض حيث يقوم بالغناء الجماعي على وقع ما تعزفه الفرقة الموسيقية، سهرة اطلق فيها جمهور قرطاج العنان لصوته وصدح بأجمل الأغاني التي اختارها له بودشار فكانت البداية ب »يا مسهرني » لأم كلثوم لينتقل الفنان المغربي بالجمهور في نفس النسق الطربي الى رائعة وردة الجزائرية « أكذب عليك » ، أغان رددها جمهور قرطاج ليتحول الى كورال منسجم بامتياز.
سهرة لعب فيها الجمهور دور الفنان، وهو ملخص مشروع بودشار « أنتم الكورال » الذي أراد من خلاله أن يكون العرض تشاركيا مع الحضور .
ويحرص قائد الأوركسترا المغربي على انتقاء مجموعة من الأغاني التي تشكل وجدان الجمهور في مراحل مختلفة من تاريخ الأغنية حيث انتقل في حفله من الطربي الى الشعبي ومن الكلاسيكي الى المعاصر، فبعد أم كلثوم ووردة تغير ايقاع الحفل مع روائع الفن التونسي على غرار « كي يضيق بيك الدهر » للصادق ثريا و »نساية » للطفي بوشناق و « آه يا خليلة » لصليحة.
« أنتم الكورال » عرض تحول فيه جمهور قرطاج الى عنصر اساسي يؤدي الأغنية دون بروفات مسبقة يقوده المايسترو بودشار، معتمدا في الغناء على ذاكرته أو هاتفه المحمول لتنساب الجمل الموسيقية في تناسق تام مع الألحان .
و لأنه يختار برنامجه الغنائي بدقة، ويحاول ارضاء كل الأجيال، فمن الطبيعي ان يوازن امين بودشار بين الجديد والقديم، محافظا على نفس النسق على امتداد ساعتين ونصف، ومن التونسي القديم انتقل الجمهور مرفوقا بالفرقة الموسيقية الى أغنية « أتحدى العالم » لصابر الرباعي تخللها صولو لآلة الترمبون قدمته « لولي سوليتي »، قبل أن يتماهى مع كلمات أغنية « علّي جرى » و »وحياتي عندك » لذكرى.
لم يكتفي أمين بودشار في حفله مساء الخميس غرة أوت 2024 بمؤلفاته الموسيقية وبغناء الجمهور بل دعى الى الركح مجموعة من العازفين قدموا معزوفات منفردة حيث تميز العازف التونسي الكبير البشير السالمي على آلة الكمنجة في « عرضوني زوز صبايا » قبل ان يعزف وبطلب من الجمهور « علاش يا غزالي »، في حين قدم العازف جوهر الهرماسي معزوفة على آلة السكسوفون ، وتميزت العازفة « لوسي » في أغنية « سواي » على آلة الترومبات .
أنماط ولهجات موسيقية مختلفة اعتمد فيها بودشار على الآلات الغربية مع المحافظة على الروح المغاربية باعتماده على آلة القمبري، وآلة المزود والبندير في الموروث الموسيقي التونسي.
تواصلت السهرة بنفس النسق ونفس الحماس والأداء المتميز للجمهور مع أغنية « اليوم قالتلي » للهادي الجويني » و »ريتك ما نعرف وين » للطفي بوشناق » ولعزيزة جلال اهتز المسرح على كلمات « مستنياك » و »ألف ليلة وليلة » لأم كلثوم التي انيرت خلالهما أضواء الهواتف الجوالة في مشهد ساحر ورومنسي.
وقبل أن يختم بودشار سهرته بالأغنية التي ساهمت في انتشار صيته عربيا بعد أن أداها الجمهور المغربي في احدى الحفلات بالمغرب وهي « جانا الهوى » لعبد الحليم حافظ »، اقترح على نجم السهرة أي الجمهور ميدلي تونسي تكون من أغنية الهادي الجويني « حبي يتبدل » و »تكويت » لعلي الرياحي و »اش علينا » لنعمة قبل ان يغادر الركح .
سهرة قرطاجنية جديدة لم تحقق النجاح الجماهيري والفني فقط بل أثبتت أن الجمهور التونسي هو جمهور فنان محب للحياة والموسيقى والفرح وهو ما أكده أمين بودشار خلال الندوة الصحفية التي عقبت العرض مشيرا الى أن هذه السهرة ستضل عالقة بباله .