أمام جمهور قارب عدده الستة آلاف قدّم الموسيقار والمطرب التونسي زياد غرسة مساء الخميس 25 جويلية على الركح الروماني واحدة من أرقى سهرات الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، سهرة أفصح عن بعض تفاصيلها قبل يوم خلال ندوة صحفية واعدا جمهور قرطاج ببرنامج تتوزّع فقراته بين المالوف التونسي والأغنية العصرية والشعبية…
لعشاق هذا النمط الفني الضارب تاريخه في عمق الهويّة الثقافية خصّص زياد غرسة الحفيد الروحي لخميّس ترنان الجزء الأول من الحفل للمالوف استهلّه ببشرف سماعي في طبع الأصبعين تلاه موشّح « قد بشّرت بقدومكم ريح الصبا » ثم « يا بدر التمام »… مراوحا بين « البرول » في »قدم المساء » و »كتمت المحبة سنين » و »الهروب » في « من النوى » و »الختم » في « بالهوى قلبي تعلّق »… « برول » و »هروب » و »ختم » و »استخبار » مصطلحات وإن بدت غريبة على مستمعيها فهي في الواقع نقطة في بحر هذا التراث الموسيقي الذي يسمّى المالوف بنصوصه ونغماته وأوزانه ولهجاته يعبّر من داخله عمّا كانت عليه الموسيقى قديما وكيف تطوّرت بمنطوقها وإيقاعها منذ جاء بها الأندلسيون في القرن الرابع عشر ميلاديا لتستقرّ في بلدان شمال افريقيا وتصير إلى ما آلت عليه اليوم، زياد غرسة هوّ حلقة هامّة من حلقات هذه السيرورة كما كان الراحل الطاهر غرسة والشيخ خميس ترنان من قبله.
ساعة كاملة من المتعة والترحال في رحاب هذا المخزون التراثي كان خلالها الجمهور الأنيق في حضوره مصغيا بكلّ جوارحه منهم من يرفع يده يحرّكها على إيقاع السيكاه ومنهم من أغمض عينيه يلاحق مقام الأصبعين في جملة من موشح وآخر يحرّك رأسه يدوزن احدى النوبات، أما النساء فقد استقبلت اطلالة زياد غرسة بالجبّة التونسية بزغاريد تردّدت أصداؤها في سماء المسرح الأثري.
بقدر ما كان الإيقاع هادئا في الجزء الأوّل من الحفل أخذ في جزئه الثاني طابعا احتفاليّا صاخبا مع مجموعة الأغاني التي اقترحها الحفيد الروحي لخميس ترنان والتي لم تخرج في منطوقها عن اللهجة العامية الدافئة وذلك الغزل الرهيف الذي يجمع بين جرأة البوح والحياء الفطري فيصف العاشق « المقياس » في معصم الحبيبة وحلقة الذهب في حزامها وقد سببت له « ترهويجة » ويسأل « عزيّز قلبه » « علاش تحيّر فيّا »… تفاعل كبير بين الفنان وجمهوره، فنان له مكانة وحٌظوة في المشهد الثقافي التونسي والمغاربي استطاع بما راكمه من دراسة وبحث ومعرفة وتجديد أن يمدّ جسورا بين التراث الموسيقي والأغنية العصرية فجددّ في شكلها دون المساس بجوهرها فكان حريصا على أن تكون أغانيه الجديدة/العصرية متجذّرة في بيئتها حتّى وهو يُدخل الآلات الغربية على التخت الشرقي كاستعمال « الباتري » في أغنية « عزيزة ».
فرقة موسيقيّة تكوّنت من أربعين عنصرا من أمهر العازفين رافقت زياد غرسة في حفله مساء الخميس 25 جويلية تغيّرت مواقعهم بدخول عازفي « المزود » في أغان شعبية غيّر بها مرة أخرى إيقاع الحفل وبعثت أجواء حماسيّة على المدارج سرعان ما تفاعل معها نجم الحفل بالرقص كتعبير عن ذلك الرابط الوثيق بينه وبين جمهوره… توليفة من المقامات والطبوع والنوب والإيقاعات جمعها هذا الفنان التونسي في عرض متنوع الفقرات فكان كمن يقطف من كلّ بستان زهرة ليشكّل باقة يفوح عطرها من عراقة اللحن وأصالة الكلمة، فكما غنّى زياد غرسة المالوف وأغانيه العصرية والشعبية حمل الجمهور في جولة سريعة من خلال أداء بعض الأغاني لأسماء فارقة في المشهد الفني التونسي منها صليحة ومحمد الجموسي وأحمد حمزة… ليكون مسك الختام بأغنية « تلمّت الأحباب » في سهرة الخميس 25 جويلية التي كانت للفن التونسي الأصيل بأشكال متعددة.