« وارجعنا تاني للهوى اللي كان رماني… » لم تكن مجرّد أغنية، كانت تحيّة لركح قرطاج العريق الذي عاد إليه بعد غياب، وتحية للجمهور الذي جاءه محمّلا بالشوق لزمن الطرب الأصيل…
ليلة حارّة بالمعنيين: اللّفظي والمجازي، حرارة طقس تجاوزت العادي وحرارة استقبال جمهور فاق التوقعات ـ بعدده واختلاف أعماره ـ لفنان آل على نفسه ألاّ يسقط في فخّ الفن التجاري والأغاني المعلّبة… لا يغني سوى اللّون الطربي الذي يبرز جمال صوته وعُربه الموسيقية.
لقاء من أرقى ما يكون بين نجم سهرة الأربعاء 07 أوت 2019 الفنان السوري نور مهنا وجمهور الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي… والرّقي هنا يكمن في بلوغ تلك المعادلة الصعبة التي تتحقق فيها السعادة للطرفين/الباثّ والمتلقّي وتنتفي معها علاقة الفنان بالجمهور ليكون الجميع في حضرة الطرب ويغنيان معا.
سعادة نور مهنا بهذه الحفاوة التي حظي بها من قبل جمهور قرطاج لم تنسه ما تمرّ به سوريا « آه سوريا… يا سيدتي أنت بدمي وروحي ووجداني ووجدان كل عربي شريف » ولم تنسه تقديم واجب العزاء فاستسمح الجمهور للوقوف دقيقة صمت ترحما على روح الرئيس الراحل محمد الباجي قائد السبسي ولم تنسه أيضا تمنياته للشعب التونسي بعيد اضحى مبارك وآمن.
بتخت شرقي يضم حوالي ثلاثين عنصرا من أمهر العازفين التونسيين والكورال قادهم باقتدار وحرفية المايسترو « راسم دمق » قدّم « نور مهنا » سهرة كان « الطرب » عنوانها الكبير، غنّى من جديده « كلّ شيء فيك يغري » و »اللّي ملك قلبي طبعو الدلال » و »لعلّ وعسى أشوفك شي مسا » مراوحا بين الأزجال بالعامية السورية والقصائد الفصحى، غنّى القدود الحلبية والمواويل على غرار « قالت ألا لا تأتي دارنا » و »أودّ أبكي وثغرك يبسم/ وأودّ موتي والحياة عزيزة » ثم « ضحك الزمان وضحك ليّا » و »ابعثلي جواب » و »يا شادي الألحان » و »مالك يا حلوة مالك » و »يا مال الشام » و »إن كنت ناسي أفكرك » و »ربة الوجه الصبوح »… ثم « وحشتني » للفنانة القديرة الراحلة سعاد محمد الأغنية التي كادت تنسى فنفض عنها غبار الذاكرة وأعاد لها الاعتبار وطبعها بصوته وزيّنها بعُربه الموسيقية الجميلة، غنّاها منتشيا وتلقاها الجمهور بانتشاء أكبر وعلى وقع « وحشتني » دعا نور مهنا جمهور قرطاج العظيم « تعالى نعوض كل دقيقة… تعالى تعالى/ تعالى نخلّي الحلم حقيقة… » كما لو أنه يستدرجه لتعويض سنوات غيابه عن قرطاج بالفن الأصيل والمعاني الراقية…
أكثر من ساعتين لم يتوقّف فيهما الفنان السوري « نور مهنا » عن الغناء ولم يتوقّف جمهوره عن التفاعل والتركيز، وليكتمل المعنى الطربي لهذه السهرة أهدى ضيف الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي جمهوره مقاطع من مدونة الغناء العربي « حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي… » و »حب إيه اللي انت جاي تقول عليه » و »كل ده كان ليه » وكان يزيّن ويلوّن في آدائه دون تشويه أو تحريف لحني، ثم ودّعه بالكوبليه الأول من أغنية اسمهان « إمتى حتعرف إنت إني بحبك إنت/ إمتى حتعرفوا إني بحبكم »
طرب وانتشاء ومتعة… وحفاوة لقاء بالفنان السوري الذي جمع بين جمال الصوت وقوته والذوق الفني المميز وجمال الحضور بجمهور قرطاج الأنيق في سهرة استثنائية لن ينساها الفنان وسيذكرها جمهور مساء الأربعاء 07 أوت 2019… ساعتان كأنهما سفر على مركبة سحرية أخذت الحضور لكوكب آخر، ساعتان للجمال والحب، للطرب الجميل وللوفاء لكبار المطربين… ساعتان خطّ فيهما ركح قرطاج سطرا آخر في تاريخه العريق كُتب بنوتة متناغمة ومقامات شرقية وصوت عربي أصيل.