في سهرة مزاجها من ذكريات وحنين وقصص محبة مع الجمهور التونسي ترسخت على مر السنين، توهجت « شمس الغنية اللبنانية » نجوى كرم على ركح مهرجان قرطاج الأثري، وبفستان ذهبي ينهل تفاصيله من التاريخ ويستعير لونه من خيوط الشمس في أوج ضيائها أطلت على الركح بسهرة 9 أوت 2025 حيث سبقتها إيقاعات الدبكة التي تسربت إلى المدارج ولبت الأجساد نداء الرقص.
استهلال السهرة لم يكن كلاسيكيا، إذ طالع الجمهور إعلان مشاركة نجوى كرم في الدورة التاسعة والخمسين والذي احتفت فيه بقرطاج كلمات وزيّا ومكانا موغلا في التاريخ.. »عزك دايم يا قرطاج » هكذا صدحت الفنانة التي تحمل في صوتها زخم الجبال وغازلت جمهورها ورافقها على الركح عازف طبل يقتنص الإيقاعات من تفاعل الجمهور.
حينما تغني أو ترفل بفستانها الذهبي جيئة وذهابا تبادل محبة جمهورها بأكثر منها، نجوى كرم الفنانة التي راكمت « ذكريات » جميلة على ركح قرطاج كما صرحت بذلك أكثر من مرة تبدو منتشية بما قدمته من أغاني متنوعة طيلة ما يزيد عن الساعتين في حفل سيبقى في ذاكرة كل من حضره مطولا.
منذ عام 1992، نسجت الفنانة نجوى كرم علاقة فنية ووجدانية مع مهرجان قرطاج وجمهوره فلم يخذلها كما لم تخذله فنيا سنوات 1992 و1997 و1998 و2004 و2008 و 2012 و آخرها عام 2016..
وتأتي مشاركتها هذا العام لترسخ حضورها في تونس وتؤكد مرة أخرى أن شمسها لم تغرب بعد وأنها قيمة فنية ثابتة في مشهد موسيقي عربي متغير،
فكان حضورها بمثابة طقس غنائيّ خاصّ تجاوز حدود العرض الموسيقي العابر ليصبح جزءا من ذاكرة المهرجان ووجدانه وهو ما يتجلى في اختلاف الفئات العمرية الحاضرة.
مرة أخرى، عادت « شمس الغنية اللبنانية » لتتوهج على الركح الأثري بقرطاج وتستحضر ذكريات الماضي وتجدد العهد مع المسرح الذي كان شاهدا على بداياتها وتحوّلاتها الفنية واحتفى بتطورها لتكتب مدونتها الغنائية المكثفة عاطفيا.
وحينما تعالت نغمات البزق والتحقت بها نغمات القانون ، توشح الركح بمسحة رومانسية وشاعرية وخاطبت نجوى كرم الذاكرة السمعية لجمهورها عبر « هيدا حكي » و »عاشقة » و »أيا أنا بدك » و »خليني شوفك بالليل »، و »بالروح بالدم ».
بين الأغاني الإيقاعية المغرية بالرقص والمواويل الطربية الرخيمة تنقلت بسلاسة وتوقف الزمن عند خامة صوتها الجبلي وهي تصدح بمدلي « تهموني » وقد ازداد عنصر موسيقي آخر مفعم بالحماسة والحنين والدينماكية، هو الجمهور.
توازن لافت بين الطربي والجبلي والدبكة المشحونة بالتراث الموسيقي اللبناني، وبين النغمات الشرقية العميقة والتوزيعات المعاصرة، ظهر على الركح فقد أثبت الفنانة نجوى كرم أنها تتقن فن التحول دون أن تفقد جوهرها، وتعرف كيف تُرضي أذواقا مختلفة تمتد بين الحالمين بالقديم والمتعطشين للجديد.
العرض، كما أسلفنا، تجاوز ساعتين من الزمن، قدّمت خلالها أغان جمعت فيها بين محطّات مختلفة من مسيرتها وكان فيها الجمهور كورالا يلتقط الجملة الموسيقية ويستبق الغناء في تفاعل عاطفي عميق بين الفنانة وجمهورها.
وحضور الجمهور لم يكن عدديا فحسب، بل شراكة وجدانية كاملة إذ رقص وغنّى وصفّق طيلة العرض، واستجاب لكل إيماءة من نجوى، في تجسيد لروابط الثقة والحنين التي خلقت طاقة جماعية ملفتة على ركح قرطاج.
وبالإضافة إلى أغانيها القديمة الراسخة في الذاكرة، غنت الفنانة نجوى كرم من ألبومها الجديد « حالة طوارئ »، وكانت انتقالاتها بين المقامات سلسة ومدروسة، كما خلق حضورها الركحي ووثوقها وانسجامها مع المسرح، الذي باتت تدرك كل زاوية فيه، فضلا عن بصوتها الجبلي الذي لم يمسسه الزمن، حالة من الانسجام القصوى.
لعبت الفرقة الموسيقية التي رافقتها دورا مهما في خلق التناغم الجماعي فقدمت ألحانا تماهى فيها العود والطبلة والبزق والعود، والكمان وغيرها من الآلات في توزيع حي على إيقاع إضاءة منسجمة حملت الأداء إلى مساحات أخرى. نجوى كرم، التي غابت عن قرطاج لقرابة تسع سنوات، عادت إليه لتقدم عرضا موسيقيا متكاملا ومتوازنا كان بمثابة احتفاء جماعي بمدونتها الموسيقية بما فيها من تنويعات ومقامات وإيقاعات.