تتقدم الشعوب حين تتصالح مع تراثها، وتصنع أمجادها انطلاقا من حكايات الماضي وفنون السابقين، فالتراث هوية وفي هذا السياق التقى جمهور الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي مع سهرة « فلكلور » الاثنين 11 أوت 2025 اذ اجتمعت على خشبة المسرح الروماني عشر فرق تقليدية كل منها تغنت بتراث بلدها.
من تونس والجزائر وليبيا والعراق ومصر وفلسطين وصربيا والهند والسينغال بوركينا فاسو، رقصت الاجساد وكتبت بلغة خاصة سهرة من أجمل سهرات المهرجان.
افريقيا ترقص للحرية
من القارة السمراء تكون بداية الرحلة، « ماما افريكا » الشامخة بتلونها الثقافي والايقاعي منها النبض وإليها العودة كلما رغبت الاجساد في التحرر، من السينغال جاء ديان ادامس محملا بالانسانية فغنى للأطفال خاصة أطفال فلسطين وصدح صوته عاليا للحرية.
في افريقيا جنوب الصحراء، مزيج من الحكايات، ومن بوركينا فاسو، اتحدت آلات الكورا والدجمبي والبلافون لصناعة ملحمة موسيقية افريقية الروح والتقديم، ضرباتهم على الخشبة كأنها كتابة متجددة للتاريخ، حكايات شعوب تعايش الرقص في حياتها اليومية، ففي جسد الافريقي نرى جليا أنساق الرقصات ومختلف خطواتها ليعبر عن الفرح كما الالم، يرقص للحياة ويرقص للموت أيضا، وبحركاتهم المتسارعة في رقصة العصا والسيف التي تقدم جزء من التحام أبناء القبيلة والوطن، ثم رفع علم بوركينافاسو وتحلق حوله الراقصين ويضربوا بأقدامهم الحافية بقوة شوق الإنسان إلى الحرية.
الرقص لغة لا تحتاج ترجمة
الرقص حياة وتعبيرة ثقافية لا تحتاج ترجمة، وبأجسادهم وحركاتهم قدم راقصي معهد بلغراد للرقص والغناء القليل من تاريخ بلدهم صربيا، على الشاشة الخلفية مررت صور لأشهر معالم البلد قلعة بلغراد، اعتلى العازفون الجزء العلوي للركح بلباسهم الأبيض والأسود أما القيثارة فكانت سيدة كل النغمات.
رسم الراقصون بحركاتهم الدائرية ونقراتهم الخفيفة على الخشبة بعض تفاصيل البلد، وقدموا أشهر الرقصات « كولو » وتقدم الرقصة في شكل سلسلة ويمسك أثنائها الراقصين ببعضهم البعض وتتسارع الخطوات حسب الإيقاع وفي صربيا أكثر من رقصة شعبية أهمها الكولو والبرانكو والسيفا.
لا تزال الرحلة متواصلة، من الشرق الأوروبي إلى قارة آسيا تحديداً الهند، عبر أصدق اللغات لغة الجسد، الرقص لدى الهنود حياة أخرى، الرقص لغة ضاربة في عمق الثقافة والحكايات، الى راجستان تحديداً تتجه أنظار الجمهور، في الجزء العلوي للركح فرقة تراجيستاني الموسيقية حيث يتقدم الطبل الهندي الكبير الحجم بايقاعاته القوية، وفي الأسفل تلون الراقصتان الفضاء بحركات مبهرة وطاقة فرح ترافق كل خطوة.
للجمهور قدموا أكثر من لوحة اذ تشتهر راجستان برقصات وفنون شعبية متعددة على غرار باتي وباغارو، ميزة الأزياء الألوان والتطريز ويتألف زي الراقصتين من تنورة طويلة وبلوزة قصيرة تسمى « شانيا شولي » chaniya choli بالإضافة إلى غطاء طويل يطوع أثناء الرقص.
ألوان مغاربية في قرطاج
تدق الطبول المدورة الشكل، يجلس خلفها العازفين، ألوانهم مميزة: الأبيض مع وشاح أحمر اللون، محملين بقوة الجنوب وسحر الصحراء صعدوا إلى ركح قرطاج ليكتبوا سطرا آخر في الذاكرة الموسيقية التونسية، « طوايف غبنطن » المسجلة في ديسمبر 2024 على القائمة التمثيلية للتراث غير المادي لدى اليونسكو, قدموا لوحة تراثية مزجوا فيها رقصتهم الفريدة وسحر لقاء الجسد مع الإيقاع.
صوت المزود يعلن الاحتفالية أعلى الركح، إيقاعات صاخبة يصنعها الطبل في تماهيه مع المزود الليبي وتكون أولى الرقصات نابضة بروح الصحراء اذ جسدوا بحركاتهم ووجوهم الملثمة سردية الطوارق حراس الصحراء منذ الازل، وقدمت الفرقة الوطنية للفنون الشعبية الليبية لوحات راقصة عبرت عن فرحها بين الجمهور وأعضاء الفرقة التي تأسست منذ 1963 لتدافع عن الموروث الليبي من خلال لغة الموسيقى والرقص.
تتواصل الاحتفالية وتكون الوجهة إلى الجزائر وتحديدا فرقة تيفاست للفنون الشعبية فعزف أعضاء الفرقة ايقاعات الشاوية وموسيقي تقليدية تتقاطع مع أهازيج ترددها النسوة في شمال البلاد التونسية والمناطق الحدودية مع الجزائر، لأن الموسيقى لا تعترف بحدود الجغرافيا.
ايقاعات المشرق لغة حية
لبلاد الرافدين تتجه القلوب، إلى عراق الثقافة والحضارة، تحمل فرقة دار الأزياء جمهور المهرجان الدولي لقرطاج ليلامس عراقة الحضارة عبر اللباس والموسيقى، صوت المجوز العراقي يصدح كأنه يذكر الجمهور أن العراق أرض اللقاء والثقافات وعلى ايقاعات الهجع والجورجينا والسماعي والجوبي أشهرها قدمت الفرقة مجموعة من اللوحات مزجت فيها الرقص مع اللباس.
وفرقة دار الأزياء مؤسسة ثقافية تأسست في السبعينات وهي متخصصة في تصميم وتنفيذ الأزياء التراثية المستوحاة من التراث والحضارات المتعاقبة على العراق وعلى ركح قرطاج حملت الفرقة جزءا من حكايات البلد من خلال الملابس الموشاة بالخط العربي وتيجان السلاطين وأزياء الملكات وشموخهن.
تُطل الأهرامات من الشاشات، صوت « الدف » مع المزمار يرتفع تدريجيا وراقص أسمر البشرة بملامح فرعونية يلبس الجلابية التقليدية ويرفع بيمناه عصاه ليعلن عن انطلاق الوجهة إلى مصر. اللوحة الأولى جماعية ميزتها الايقاعات المتسارعة ونقرات العصي رسمت ملامح الفضاء، ثم تهدئ الموسيقى تدريجيا ويطل راقص التنورة ويبدئ في الدوران حد تحليق الجسد إلى فضاءات أرحب، فيُناجي الصوفيون في دورانهم ويبدع في نحت مشهدية بصرية لامست الروح.
أما فلسطين، فثورة أخرى، فلسطين أجمل الحكايات والرقص في فلسطين أهزوجة أبدية للحرية، على ايقاعات أغنية « عاشو الفلسطينية » لمحمد عساف دخلت فرقة الكوفية الفلسطينية لتبعث في الركح الحياة.
بأزيائهم التقليدية المطرزة بذاكرة شعب وألوانهم المازجة بين حمرة الدم الفلسطيني وخضرة حقول برتقال يافا والأسود لون الليل المظلم على كل معتد ومعهم بياض قلوب الأطفال، جميعها شكلت فسيفساء للحياة والحرية تكتب كل لحظة في فلسطين من النهر إلى البحر. وكانت الدبكة صوت الحرية، الدبكة صرخة ضد الصمت، هي استنطاق الأرض واستماتة في الدفاع عن ذاكرة شعب الجبارين، ففي النهاية حين تعجز الكلمات عن التعبير تكون ضربة الأقدام على الأرض.