كانت ليلة للاكتشاف والتعرف على ثلاثة أنماط موسيقية تحمل توقيع ثلاثة فنانين تونسيين يغردون خارج السرب. جاؤوا إلى قرطاج بهدف تقديم تجاربهم الموسيقية التي تنطلق من تونس نحو آفاق أوسع تتعدد فيها اللهجات الموسيقية: « لينا بن علي » التي تأتي على أصعب الأغاني الغربية بتمكن وسلاسة نادرين وصوت قوي تحسن التحكم فيه. « زياد الزواري » الذي ذاع صيته كعازف بارع على الكمنجة كان شريكا في عدد من المشاريع الموسيقية الهامة في تونس وخارجها قبل أن يذهب في اتجاه تقديم مشاريعه الخاصة وآخرها « إلكترو بطايحي ». أما « نضال اليحياوي » فله مسار مختلف. كان دائم الانشغال بالموروث الموسيقي التونسي، يشتغل عليه بجدية، يعدله بلمسة عصرية ويرتحل به في بقاع مختلفة من العالم. تحتفظ له الذاكرة بالكثير من المشاريع والعروض آخرها « شاوية »
مع هذه التجارب الثلاثة، كان الموعد يوم الثلاثاء 23 جويلية 2019 ضمن فعاليات الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي بحضور جمهور متوسط العدد كان كافيا بالنسبة إليهم فرحلة الألف ميل تبدأ خطوة. والخطوة هذه المرة كانت ثابتة ومتأنية. كانت شرارة أولى لنجاح مؤكد للمشاريع الثلاثة في المستقبل
انطلقت السهرة مع الفنانة « لينا بن علي » التي أطلت أنيقة بثوب أسود، وانطلق صوتها يهز أركان المسرح الروماني بقرطاج رقيقا وقويا في الآن نفسه.
افتتحت « لينا » فقرتها التي دامت أربعين دقيقة بواحدة من أنجح أغاني الأفلام لسنة 2019 « shallow » لليدي غاغا من فيلم « a star is born » وتحصلت على جائزتي الأوسكار والغرامي لأفضل أغنية أصلية، ثم غنت « Rehab » لإيمي وينهاوس الصادرة في 2006 والحائزة على عدد كبير من الجوائز. والأغنية صعبة تحتاج إلى طاقة صوتية كبيرة وقد تفوقت « لينا بن علي » في آدائها وصفق لها الجمهور إعجابا بهذا الآداء
كما استحضرت في فقرتها عددا آخر من الأغاني الغربية: « I m outta love » لأناستازيا، ورائعة « ويتني هيوستن » الحائزة على أوسكار أفضل أغنية أصلية وجوائز أخرى « I have nothing » وكان آداء « لينا بن علي » مذهلا لهذه الأغنية حبست معها أنفاس جمهور المسرح الروماني بقرطاج
واختتمت فقرتها بواحدة من الكلاسيكيات المنسية « I put a spell on you » لتغادر الركح وقد حققت طموحها في أن يهز صوتها المسرح الروماني بقرطاج
في الفقرة الثانية من العرض كان الموعد مع الفنان « زياد الزواري » ومشروعه « إلكترو بطايحي ». عنوان يجعلك تندهش في البداية فالبطايحي هو الميزان التونسي والإلكترو هو الموسيقية الإلكترونية. نحن إذن أمام نمطين لا يتقاطعان نظريا، لكن تجربة « زياد الزواري » ودقة الاشتغال على « التونسي » لتقديمه في قراءة عصرية مجددة جعلت من هذا المستحيل ممكنا.
آلات الكمنجة، الناي، القصبة، السنطور، الهجهوج كلها مجتمعة في العرض، مع آداء صوتي للتونسي الأصيل يرافقه تجربة تستحق الإشادة مع « البيت بوكسور » عماد الحامدي. والرحلة كانت مغرية من « بوزيان » إلى « جرجيس »، و »تالة » مع وقفة موسيقية للمالوف وأخرى بعنوان « هي ثورة » ليختتم عرضه بالسطمبالي.
وكانت مشاركة ابني « زياد الزواري » الطفلين « طارق » و »أمين » بالعزف لحظة استثنائية لقيت هوى في نفس الجمهور
تجربة « زياد الزواري » في « إلكترو بطايحي » تأخذ الموسيقى التونسية نحو عوالم جديدة، وكأنها تعيد ترتيبها من جديد لتبدو أكثر ألقا
نهاية السهرة كانت مع نقيض التجربتين من خلال عرض « شاوية » لنضال اليحياوي الذي يروق له تقديم نفسه كالتالي « موسيقاي هي ابنة ذاكرتي. وهي تختصر كل ما عشته في « برقو » التي أستحضر معها طفولتي وكل ما ظل عالقا في أذني من موسيقى، والحلفاوين التي تختصر أنماطا موسيقية أخرى تربيت على سماعها. بينهما تشكلت شخصيتي الموسيقية »
على مدى أربعين دقيقة استمتع الجمهور بكل ما قاله « نضال اليحياوي » حول تشكيل شخصيته الموسيقية، فشاوية التي تأخذنا إلى جبال الأوراس والموسيقى البربرية المعتقة منذ مئات السنين تمتزج بالموسيقى العصرية الإلكترونية من جهة وصوت القصبة من جهة ثانية
نجح « نضال اليحياوي » في أن يحلق بعيدا بتكوينه الموسيقي وبإرثه السمعي، واستمتع الجمهور معه بعدد من الأغاني: « العين السوداء »، « نخلة جبارة »، « ممشوط قارة »، « ساق نجعك »، « شاوية »، « لسمر خويا »، « ع النوار »… والثابت أنه بهذا المشروع الذي اشتغل عليه بجدية ونجح به في شد الجمهور سيذهب بعيدا جدا
قبل انطلاق الحفل، تلقى الفنانون الثلاثة زيارة من الفنان الكبير « لطفي بوشناق » في كواليس المسرح الروماني بقرطاج محملا بثلاث باقات من الورود الجميلة. حركة دعم مؤثرة من فنان كبير لثلاثة فنانين كانوا من بين اكتشافات الدورة 55 لمهرجان قرطاج الدولي. مع التذكير بأن الموعد مع « بوشناق » سيكون يوم الأحد 28 جويلية 2019 انطلاقا من العاشرة ليلا على ركح المسرح الروماني بقرطاج.