كل عناصر الإبهار اجتمعت مساء الاثنين 12 أوت 2019 على ركح المسرح الروماني بقرطاج لتصنع سهرة لن ينساها جمهور الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي… جمهور لم يترك مكانا واحدا شاغرا حتى للوقوف، ولقرطاج سحر لا يقاوم عندما تغصّ مدارجه بمتابعي الثقافة بعناوينها وجنسياتها المختلفة…
في ثاني أيام عيد الأضحى وأجوائه الدينية وطقوسه جاء سامي اللجمي بعرض « الزيارة » الذي لا يزال يحيّر متابعيه من القريب والبعيد عن سرّ تلك الحالة التي تجعل الجمهور يتابعها أكثر من مرّة، حالة تشبه السحر دفعت به لاقتناء التذاكر حتى نفادها بالكامل قبل أسبوعين من تاريخ العرض والاتجاه إلى مسرح قرطاج الروماني منذ الساعة الرابعة عصرا ليحجز مكانه… جمهور فاق كل التوقعات كان أحد المكونات الأساسية في تلك التركيبة أو الخلطة السرية لنجاح عرض « الزيارة » الذي انطلق في تمام العاشرة مساء بمنشد دخل الركح مهلّلا مكبّرا « جيناكم زيّار » وممهّدا لحوالي مائة عنصرا من المنشدين والعازفين والراقصين وحاملي الأعلام والبخور… ليتخذوا أماكنهم على الركح الروماني بطريقة منظّمة ومدروسة توفّرت على أبعاد جمالية، أغان صوفية وتواشيح دينية ومناجاة للخالق ومدح للرسول الكريم والصلاة عليه وذكر لأولياء الله الصالحين ومآثرهم… جولة روحانية خالصة تنطلق بإيقاع هادئ ثم على وقع الدفوف وتصفيق الأكفّ يرتفع نسقها تدريجيا وتُسمع الزغاريد من كل مكان وتنتشر معها رائحة البخور فيتحوّل الفضاء على اتساعه لما يشبه المزار أو حلقة ذكر يندمج فيها الكل في انسجام تام.
« الزيارة » ليست عرضا للإنشاد الصوفي فحسب، أو هو هكذا في الظاهر لكنه في الواقع طقس كامل من الطقوس الروحانية التي يقع تحت تأثيرها الصغار والكبار، النساء والرجال… يكفي ان تلقي نظرة على الجمهور لتدرك أن سامي اللجمي سحرهم بكل تلك الألوان والأضواء والموسيقى التي امتزج فيها الجاز والفلامنكو بالنوبات الصوفية والتقت فيها الدفوف والطبول بالجيتار والأورغ والكمنجة في انسجام وتناغم… « نا جيت زاير » و »هيا نزورو شيخنا يا فقرا » و »يا ناس المقام جيناكم زيّار » و »سيدي بن عيسى » و »شيعتهم بالعين » و »يا طير يا طيّار » و »يا لطيف يا الله » و »هللوا وكبروا تكبيرا » وهيا نزورو » و »راكب عالحمرا » و »يا بنيّة جمّال » و »بالك تنساني » و »يا سيدة يا نغّارة »… وأناشيد أخرى كثيرة وابتهالات تخللتها لوحات لها مدلولها في هذه الأجواء الروحانية كصواني الشموع التي مرّ بها الرجال من أمام الجمهور ليصعدوا بها الركح وأطباق المشموم بأيادي الفتيات باللباس التقليدي توزّعن الياسمين والفل على المنشدين وأخريات يحملن القفاف بهدايا التبرّك ملتحفات بالسفساري والرجل الذي يخترق الصفوف بيده « المرشّ » يرشّ ماء الزهر… لم تهدأ الحركة على ركح مسرح قرطاج لأكثر من ساعتين تتابعها الأعين شغوفة بذلك الإخراج الآسر وتلك الموسيقى المتلونة تحت إيقاع الضوء، وقوة أصوات المنشدين ونقائها على غرار محمد علي شبيل ومنير الطرودي… كلّ العناصر مجتمعة ساهمت في تشكّل مشهديّة ركحيّة متعددة الأبعاد بحيث لا يمكن الاستغناء عن أي منها… فكلّها أجزاء صنعت هذا الكلّ المتجانس « الزيارة » التي اقترحتها الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي مساء الإثنين 12 اوت 2019 على جمهورها.
لقد استطاع سامي اللجمي أن يكشف عن ثراء المخزون التراثي الصوفي التونسي الذي يرتفع بالروح ويسمو بالأنفس لتحلق في عوالم نقيّة تنشد السلام والتطهّر…
حسب تصريحات رجال الحماية المدنية أكثر من ثمانين امرأة « تخمّرت » خلال العرض… بهذا الرقم بدأت الندوة الصحفية مباشرة بعد عرض « الزيارة » بكواليس المسرح الروماني، بماذا يمكن لسامي اللجمي أن يفسّر هذه الحالة وتحديدا هذا النجاح الكبير للعرض؟
سؤال لم يجد له منجز العرض ومخرجه وصاحب فكرته الكلام المناسب فحسب رأيه كل ما يمكن أن يقال قاله على الركح الذي خبره وتعوّد عليه منذ سنة 2013 وأضاف: لم نتوقّف عن العمل ولا أكون راضيا تماما بعد كل عرض لذلك أبحث باستمرار عن نصوص جديدة وموسيقى مختلفة مع التركيز على « طُرق » صوفية جديدة… وعن الإخراج الذي اعتمده في عرض « الزيارة » مساء الاثنين 12 أوت 2019 أوضح أن العرض الحيّ لا بد أن يكون حيّا بالفعل، بالحركية الموسيقية ولوحات الراقصين وسائر التفاصيل والمتممات الركحية… وعن عدم وجود أصوات نسائية لتنشد في « الزيارة » أكد اللجمي أن المسألة صعبة تقنيّا لاختلاف المساحات الصوتية بين الرجال والنساء وقد حاولنا أكثر من مرة ملاءمة العملية لكنها لم تكن أبدا لصالح المرأة التي لا أريد أن أظلمها بطغيان الصوت الذكوري على صوتها…